فاروق كان ملكا وليس ملاكا (14)
فى يوم الثلاثاء 19 فبراير 1946 كان أحمد حسنين عائدا من مكتبه فى قصر عابدين كرئيس للديوان الملكى وزوجا للملكـة نازلى أم الملك فاروق، وبينما كانت سيارته تجتاز كوبرى قصر النيل فى طريقها إلى الدقى أقبلت سيارة لورى بريطانية من الجهة المضادة، ولفت نصف لفة على الكوبـرى وصدمت سيارة حسنين باشا من الخلف صدمة شديدة التفت السائق خلفه فرأى الدم يسيل من فم حسنين باشا فأوقف السيارة ونزل منها يصيح ويطلب المساعدة، وفى نفس اللحظة مرت مصادفـة سيـارة وزير الزراعـة أحمـد عبد الغفـار باشا صديق حسنين وزميله أيام الدراسة فى أكسفورد، فأسرع وحمله إلى مستشفى الانجلو القريب من مكان الحادث ولكنه أسلم الروح، فنقلـوه إلـى داره.ونشرت (أخبار اليوم) تفاصيل الحادث يوم 22 فبراير 46 فى الصفحة الأولى تحت عنوان (من المسئول عن مصرع حسنين باشا) وقالت إن وكيل النيابة أنور حبيب (المدعى الاشتراكي فى عهد الرئيس السادات) أراد توجيه بعض الأسئلة إلى الجندى البريطانى سائق اللورى فتقدم إليه ضابط انجليزي برتبة كابتن وأمره بألا يجيب، وقال لوكيل النيابة: لن أسمح بتوجيه أى سؤال إليه لأن صحته أهم لدينا من أى شىء تريدونه منه، ثم أخذ السائق معه وانطلق بسيارته. وقد أحدث تصرف الضابط البريطانى دهشة واستياء، بينما تجمعت ثلاث شهادات على أن السائق كان يسير بسرعة غير عادية، وشهد مراقب الإذاعة البريطانية فى الشرق الأوسط الذى كان يسير بسيارته فى مكان الحادث بأنه توقع حدوث كارثة عندما شاهد اندفاع اللورى واختلال توازنه فأوقف سيارته، وكان هو أول من خف إلى سيارة حسنين باشا. وقرر الخبير الذى فحص اللورى أن بها خللا فى (الدركسيون) بسبب فقد إحدى صواميله. وقيدت النيابة الحادث جنحة ضد السائق البريطانى برقم 195 جنح أجانب سنة 1946 بدائرة قسم عابدين، لأنه تسبب بغير قصد ولا تعمد فى قتل حضرة صاحب المقام الرفيع أحمد حسنين باشا، وذلك بإهماله وعدم احتياطه ومخالفته اللوائح بأن قاد سيارته بسرعة فائقة رغم تساقط المطر ولم يلزم الجانب الأيمن.***ويروى كريم ثابت المستشار الصحفى لفاروق والملازم له ليل نهار أن فاروق اتصل به فور وقوع الحادث وطلب منه أن يسرع إلى بيت حسنين باشا، وحين وصل قيل له إن الملك حضر وانصرف، وبعد قليل عاد الملك فاروق وكان بادى الانزعاج وقال لكريم ثابت: لقد جمعت بنفسى أوراقه الخصوصية هنا وفى عابدين، ويقول كريم ثابت: لاحظت أنه لا يتحسر على رائده ولا يذكره بعبارة واحدة تنم على حزنه وقال فقط: تركنا وإحنا فى عز الشغل. وبعد قليل أنعم على اسمه بالوشاح الأكبر (وشاح محمد على ) وقال: لكى يتمكنوا من تشييع جنازته عسكريا.. ولم يذرف عليه دمعة واحدة، بل بدا لى فى بعض الدلائل أن فاروق ارتاح إلى رحيله.. ويضيف كريم ثابت: بعد ذلك اصطحبنى فاروق فى سيارته وأوقفها أمام أوبرج الأهرام، ودخلت فى إثره وأنا أقول فى نفسى: إذا كان قد جاء إلى الأوبرج ليلة وفاة حسنين فما عساه فاعلا ليلة وفاتى؟ وكان نبأ مصرع حسنين قد ذاع فى العاصمة فلما رآنا الذين كانوا فى الأوبرج فى تلك الليلة لم يصدقوا أعينهم.. أما الملك فقال لكريم ثابت: لابد أن هناك مأتما آخر الليلة فى الدقى. وكانت أمه الملكة نازلى منذ خلافها معه – بسبب زواجها من أحمد حسنين – تقيم فى البيت الذى ورثته عن أبيها فى الدقى.. ثم قال فاروق: من حسن الحظ أن كل شىء انتهى الآن. ويضيف كريم ثابت: إنه قيل إن فاروق عثر بين أوراق حسنين على عقد زواج عرفى بين حسنين ونازلى ولكنه لم يطلعه عليه.ويقول كريم ثابت إن فاروق ظل يتكلم طويلا عن مأساته بسبب علاقة أمه بحسنين باشا وقال: كنت مضطرا إلى الاحتفاظ به، كان يعرف طبيعتى وسياستى واسرارى، وكنت فى البداية محتاجا إليه فى عملى ثم لم أعد فى حاجة إليه ولكنى كنت قد اعتدت العمل معه، وكان يريحنى، فظل فى خدمتى بقوة الاستمرار وكان فى عمله مطيعا ومؤدبا!***ولم يختلف أحد ممن تناولوا عصر وشخصية فاروق على أن أحمد حسنين هو الرجل الذى سيطر على عقلية فاروق وإرادته إلى درجة أنه كان هو الذى يحكم القصر، ويحكم الملك، ويحكم الملكة الأم طبعا، وكان معروفا أن من يسيطر على الأم يسهل عليه السيطرة على فاروق!عندما أرسل الملك فؤاد ابنه فاروق إلى انجلترا ليتم تعليمه فى أكتوبر 1935 اختار له أحمد حسنين ليشرف عليه أثناء إقامته هناك واعتبره (رائد الملك) وكان فاروق ما يزال فى مرحلة المراهقة لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره، وكان المشرف على تنفيذ برنامجه الدراسى الفريق عزيز المصرى. كان عزيز المصرى ضابطا جادا بينما كان أحمد حسنين انجليزى الثقافة والسلوك وقد تعلم فى جامعة أكسفورد، وقد عرف كيف يسيطر على فاروق بأن يشجعه على السهر كل ليلة فى علب الليل فى لندن، بينما اضطر عزيز المصرى إلى أن يترك مهمته ويعود إلى مصر لكيلا يتحمل مسئولية المشاركة فى إفساد ولى العهد ملك مصر المقبل، وبذلك خلا الجو لأحمد حسنين. وكان أحمد حسنين يدين بالولاء لدولة الاحتلال التى عاش وتعلم فيها. كان اللورد ملنر هو ولى أمره فى سنوات الدراسة! وبعد عودته من لندن وإتمام دراسته فيها سنة 1914 كانت أول وظيفة له هى وظيفة السكرتير الخاص للجنرال ماكسويل الذى كان حاكما عسكريا على مصر بتوصية من اللورد ملنر. وظل إلى جانب الجنرال ماكسويل حتى انتهت الحرب العالمية الأولى فانتقل للعمل فى القصر مفتشا بوزارة الداخلية التى كانت خاضعة لإدارة الانجليز، ثم انتقل للعمل فى القصر الملكى سنة 1922 فى وظيفة (الأمين) للملك فؤاد بتوصية من السفير البريطانى – الحاكم الفعلى لمصر فى ذلك الوقت – إلى أن اختاره الملك فؤاد فى سنة 1935 ليكون رائدا لابنه فى رحلة الدراسة فى لندن التى لم يتعلم فيها فاروق شيئا، واضطر إلى قطع البرنامج بعد وفاة أبيه. وظل أحمد حسنين إلى جواره مستشارا ورائدا ومدبرا لمؤامرات القصر، ونجح فى أن يستقطب مجموعة من الصحفيين يكتبون المقالات وينشرون الأخبار التى تصور الملك فاروق فى صورة الملك الصالح الذى يتفانى فى رعاية شعبه والذى يعمل على تحقيق الاستقلال وتطهير البلاد من الاحتلال، وهكذا نجح أحمد حسنين فى خداع الشعب وخداع الملك نفسه الذى صدق الدعايات بأنه الملك الذى يحافظ على الدستور. ونجح أحمد حسنين أيضا فى الإيقاع بين الملك وبين النحاس وحزب الوفد وهو حزب الأغلبية، ونجح فى شق حزب الوفد، وشجع مكرم عبيد على الخروج من الوفد وتشكيل حزب الكتلة الوفدية وإعداد (الكتاب الأسود) للإساءة إلى النحاس وزوجته.يقول محمد التابعى – صديق أحمد حسنين – إن أحمد حسنين كان حريصا على أن يصور نفسه فى صورة (الطرطور)، ومن تحت هذا (الطرطور) كان يحكم مصر، ومثال واحد يكفى، فهو الذى قرر أن يكون حسين سرى رئيسا للوزراء بعد وفاة رئيس الوزراء حسن صبرى أثناء إلقائه خطاب العرش فى البرلمان مع أن الملك فاروق كان لايزال يتباحث مع على ماهر فى أسماء المرشحين للوزارة ولم يكن بينهم حسين سرى.خطة أحمد حسنين للسيطرة على الملك وأمه بدأت عقب وفاة الملك فؤاد. يقول الدكتور حسين حسن السكرتير الخاص للملك فاروق فى مذكراته التى أصدرتها دار الشروق بعنوان (سنوات مع الملك فاروق): (بعد انقضاء يوم الأربعين لوفاة الملك فؤاد تم انتقال الأسرة الملكية إلى الإسكندرية كعادتها سنويا، إلا أنه طرأ فى تلك السنة حادث جديد لم يسبق له مثيل من قبل وهو نزول (الرائد) فى المبنى الرئيسى لقصر المنتزه المعد لنزول أفراد الأسرة، على الرغم من وجود مبنى مستقل فى أحد أركان الحديقة لنزول من تحتم الظروف مبيته بالقصر من رجال الحاشية، وقيل فى تعليل ذلك إن واجبات (الرائد) تقتضى وجوده إلى جانب الملك الشاب فى كل لحظة مما يستدعى ملازمته له فى الإقامة).ويحكى السكرتير الخاص للملك فاروق عن رحلة فاروق مع والدته وشقيقاته الثلاث إلى أوربا وكان أحمد حسنين ملازما للملك وأمه فى هذه الرحلة التى شملت زيارة مرسيليا وجنيف، وبرن، وزيورخ، ثم لندن والعودة عن طريق باريس وفيشى. وفى بداية الرحلة همس أحد رجال الحاشية للسكرتير الخاص أنه شاهد أحمد حسنين جالسا إلى جانب الملكة نازلى فى حالة استرخاء لا يكون إلا بين من رفعت بينهم كل كلفة، وفى صباح اليوم التالى استدعى أحمد حسنين هذا الرجل وقال له: هل تعرف الحكمة لا أرى لا أسمع لا أتكلم؟ هكذا يجب أن يكون رجل الحاشية من بطانة الملوك.. ويقول السكرتير الخاص للملك: كانت تلك الواقعة هى النذير لما تطورت إليه العلاقة بين الملكة نازلى وحسنين فيما بعد، وكان يراودنا الأمل فى أن تتحرك فى نفسيهما عوامل القيم الأخلاقية متسائلين: كيف لا تتنبه الأم إلى واجبات المحافظة على اسمها وكرامتها كأم وملكة وأرملة ملك لبلد إسلامي، وكيف لا يتنبه الرجل الكبير إلى أنه زوج لسيدة لها مكانتها الكبيـرة أمهـا أميــرة كــانت زوجـة للملك فؤاد عندما كــان أميـرا وبفضـل زوجته ومكانتها توثقت صلته بالأسـرة المالكـة، فضــلا عـن أنه أب لأولاد ثلاثة، ولكن ما حدث أثبت أن الملكة نازلى كانت تستهين بكل ما يتعارض مع إرادتها.إنـه عصر ينخر فيه الفساد الأخلاقى والسياسى منــذ البــدايــة!
اعلانات عالمية
Tuesday, March 18, 2008
Sunday, March 9, 2008
الملك فاروق الجزء الثالث
| |||||||||
|
| ||||||||||
ليس من الصعب أن نكتشف أن شخصية الملك فاروق غير سوية، وأنه كان يعانى من عقدة نفسية تكونت فى الطفولة وازدادت تغلغلاً فى نفسه مع الأيام والسنين. كانت لديه عقدة نفسية من قسوة أبيه وحرمانه من حنان الأب كسائر الأطفال. وعقدة نفسية أخرى هى التى يسميها علماء النفس عقدة أوديب فى إشارة إلى التراجيديا التى أبدعها شكسبير عن الملك أوديب الذى قتل أباه وأحب أمه وتزوجها دون أن يعرف أن هذا أباه وأن هذه أمه، وعندما عرف الحقيقة فقأ عينيه وهام على وجهة والشعور بالذنب يكاد يقتله. عقدة فاروق أنه أحب أمه (الملكة نازلى) فى طفولته وتعلق بها، وتعلقت هى أيضاً به لأنه الولد الوحيد، ولأنها أفرغت عواطفها عليه تعويضاً عن قسوة الزوج وانشغاله بعشيقاته والحكم عليها بالسجن تقريبا فى جناحها بقصر القبة لمدة سبعة عشر عاماً. والملكة نازلى – كما يذكر الزميل حنفى المحلاوى فى كتابه (الملكة نازلى بين سجن الحريم وكرسى العرش) الذى أصدرته الدار المصرية اللبنانية – تمتد جذورها إلى الدماء الفرنسية والتركية. جدها الأكبر سليمان باشا الفرنساوى الذى أعلن إسلامه وتزوج امرأة مسلمة واستقر فى مصر بصفة نهائية. وجدها الثانى لأمها شريف باشا (أبو الدساتير المصرية) التركى الأصل ابن قاضى عسكر السلطنة العثمانية. والدها عبد الرحيم صبرى تزوج ابنة شريف باشا رئيس وزراء مصر الأسبق، وكان محافظاً للمنوفية، ولما تولى (السلطان) فؤاد (الملك فؤاد بعد ذلك) اختاره محافظاً للقاهرة، وقبيل زواج (السلطان) فؤاد من نازلى اختاره وزيراً للزراعة. ارتبطت حياة الملكة نازلى بخمسة رجال. سعيد زغلول ابن أخت الزعيم سعد زغلول أول حب فى حياتها. السلطان أحمد فؤاد أول الأزواج. اللواء عمر فتحى كبير الياوران. أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكى رائد الملك فاروق ومستشاره الأول الذى تزوجها زواجاً عرفياً بعد قصة حب ملتهبة طلق زوجته وأم أولاده بسببها، وتسببت هذه العلاقة بين نازلى وأحمد حسنين فى أزمة نفسية لفاروق لأن (الفضيحة) كانت على كل لسان فى طول البلاد وعرضها، ولأن فاروق كان يحب أمه ويغار عليها، ولأنه كان يعتمد على أحمد حسنين وهو العقل المدبر لمواقفه وسياساته ولا يستطيع أن يستغنى عنه، كما لا يستطيع أن يقف أمام جموح أمه. وأخيراً رياض غالى الشاب المسيحى الذى كان يعمل فى السفارة المصرية فى واشنطن وله قصة أغرب من الخيال مع نازلى وابنتها الأميرة فتحية انتهت بنهاية مأساوية. كانت نازلى هى الزوجة الثانية للملك فؤاد، أما الزوجة الأولى فكانت الأميرة شويكار التى تزوجها سنة 1895 وطلقها سنة 1898 وظل بدون زوجة عشرين عاما إلى أن تزوج نازلى فى مايو 1919 وكان عمره (51) عاماً وكانت نازلى فى الخامسة والعشرين (من مواليد 1894). أما عمر فتحى فكان ضابطا فى حرس السلطان حسين كامل، وبتوجيهات من الملكة نازلى أصبح الياور الخاص لابنها فاروق سنة 1937 ثم أصبح كبيراً للياوران سنة 1941 برتبة لواء. كان متزوجاً من سيدة من وصيفات الملكة نازلى وانفصل عنها سنة 1953 قبل وفاته بسنتين (سنة 1955) وكان فى الخامسة والستين، وينقل حنفى المحلاوى عن محمد التابعى أن الملكة نازلى (بقيت سجينة القصر سبعة عشر عاماً، وأخيراً مات سجانها الملك فؤاد، وانطلقت بشراهة ونهم تطفئ نار الظمأ الذى أحرق حشاها السنوات الطوال).. وكثر الهمس.. وذكرت أسماء بعض ضباط الحرس وموظفى القصر.. ثم تركزت حول اسمين هما أحمد حسنين والياور (البكباشى فى ذلك الوقت) عمر فتحى، وبعد فترة انسحب عمر فتحى ليترك نازلى لأحمد حسنين. أما قصتها مع أحمد حسنين فكانت حديث الصالونات إلى أن طلق أحمد حسنين زوجته وأم أولاده وهى ابنة الأميرة شويكار زوجة الملك فؤاد السابقة، وتزوج نازلى زواجا عرفيا بعد أن وجدت نازلى أن زوجها رسميا يفقدها لقب الملكة والجلوس على كرسى العرش إلى جانب ابنها الملك، وأكد أحمد حسنين لمن حوله أن علاقته بنازلى لم تكن حبا ولكن كانت حرصا منه على إرضاء نزواتها، ولأنها ملكة مصر وأم ملك مصر وصاحبة النفوذ الأكبر لدى ابنها! كان زواج الملك فؤاد من نازلى فى سنة الثورة واشتعال البلاد، ومن فتاة سمعتها ليست فوق الشبهات مما جعل بيرم التونسى يصدر مجلة باسم (المسلة) بدون ترخيص ويكتب تحت اسمها (المسلة لا جريدة ولا مجلة) وكتب فيها أنشودة ذاعت على ألسنة الناس يقول فيها: البنت ماشيه من زمان تتمخطر والعقلة زارع فى الديوان قرع أخضر يا راكبا الفيتون وقلبك حامى اسبق على القبة وطير قدامى تلقى العروس شبه محمل شامى وجوزها يشبه فى الشوارب عنتر *** الوزة من قبل الفرح مدبوحة والعطفة من قبل النظام مفتوحة ولما جات تتجوز المفضوحة قلت اسكتوا وخلوا البنات تتستر وفى القصيدة يلمح بيرم إلى أن فاروق ولد قبل مضى تسعة أشهر على الزواج بقوله: ياباديشاه ده أنت ابنك ظهر ربك يبارك لك فى عمر الغلام نزل يلعلط تحت برج القمر يا خسارة بس الشهر كان مش تمام وكلمة (باديشاه) معناها السلطان. عاشت نازلى فى قصر عابدين حياة غريبة.. كانت كبيرة الوصيفات تتحكم فى تحركاتها ومقابلاتها وهى مدام جوزيف أصلان قطاوى باشا سيدة يهودية كانت فيما سبق (صديقة حميمة) للملك فؤاد.. وكانت المربية الانجليزية (مسز نايلور) الصارمة هى التى تحكم نظام تربية وتعليم الأطفال وكانت سلطتها فى القصر وكلمتها تفوق سلطة الملكة، ولم يكن للملكة رأى فى تعليم أبنائها ولا يسمح لها برؤيتهم أكثر من ساعة تقريباً كل يوم حتى لا يتعطلوا عن دراستهم. ولم تكن الملكة نازلى تخرج من القصر إلا لمشاهدة عروض الأوبرا فى موسم الشتاء، وفى الاستقبالات والمناسبات الرسمية فقط. وينقل حنفى المحلاوى عن كتاب الأستاذ محمد التابعى (من أسرار الساسة والسياسة): "لم تمض سوى أسابيع قليلة على وفاة الزوج عام 1936 حتى كثر الهمس بين موظفى القصر والأوساط الخاصة المتصلة به بأن السجينة حطمت قيودها وانطلقت وهى لا تزال فى ثوب الحداد تمرح وتحاول تعويض ما فاتها من الحياة ومتعها، وكانت السجينة هى الملكة نازلى التى كانت تقول لكل من يقابلها وتأمن جانبه: أنا سجينة الملك فؤاد" بدأت نازلى فور وفاة الملك فؤاد بالتخلص من رجاله ونسائه فى القصر، وتفرغت أولاً لتدبير الأمور لضمان جلوس ابنها على العرش وفى نفس الوقت أصبحت على علاقة مع رجلين فى القصر هما عمر فتحى كبير الياوران الذى انسحب مبكرا ليخلى الطريق إلى الرجل الثانى أحمد حسنين.. وبقى عمر فتحى حريصا على أن يكون وجوده فى حدود وظيفته.. أما أحمد حسنين فكان من طراز آخر.. فهو خريج جامعة اكسفورد أشهر جامعة فى بريطانيا، وعمل سكرتيرا فى السفارة البريطانية بالقاهرة ثم مفتشا بوزارة الداخلية ثم سكرتيرا فى سفارة مصر فى واشنطن ثم الأمين الأول للملك فؤاد ورائد فاروق ولى العهد وأمير الصعيد، ثم الأمين الأول لفاروق حين تولى العرش ثم رئيس الديوان الملكى وظل يمسك بخيوط السياسة المصرية بين عامى 1940 و 1946. وقضى عشر سنوات مع الملكة نازلى من وفاة الملك فؤاد سنة 1936 إلى وفاته هو فى حادث اصطدام سيارة يقودها عسكرى انجليزى بسيارته على كوبرى قصر النيل فى 19 فبراير سنة 1946. وخلال هذه السنوات العشر أصبح أحمد حسنين الزوج الثانى للملكة الأم. ولكن أحمد حسنين عاش قصة حب بدأت سنة 1940 مع المطربة أسمهان، واستطاع أن يجمع بين الاثنتين مما جعل ناظر الخاصة الملكية مراد محسن باشا يقول إن حسنين باشا كان أخطر رجل فى مصر.. وهو ممثل يجيد التمثيل أفضل من يوسف وهبى.. وأنا لا أنسى يوم جاءتنى الملكة نازلى تقول إنها تحب حسنين ولا تستطيع الحياة بدونه، وأنها تعسة لأن حسنين صارحها بأنه لا يستطيع أن يقربها لأنه لا يحب الحرام.. ولقد دهشت من هذا التصرف من حسنين فأنا أعرفه جيداً وأعرف أنه فى حياته الخاصة ليس شيخ الأزهر، ولكن حسنين كان يمثل دورا، وكانت النتيجة أن ازداد حب الملكة..فهو رجل يجد ملكة بين يديه ويرفض أن يقربها.. وذات يوم قالت له: أنا أعطيك انذارا نهائياً، وإما أن تعاملنى كامرأة، وإما سأقطع كل علاقة بيننا وأفعل ما أشاء، وأجاب حسنين – وهو يتظاهر بالبكاء – إنه لا يستطيع أن يقربها إلا إذا تزوجها.. ثم أسرع يقول: غير معقول أن أتزوج الملكة، وهنا صاحت الملكة نازلى: طظ فى لقب الملكة، ولكن حسنين قال إن جلالة الملك سيطردنى وأنا أفقر من أن أعيش على معاشى. قالت الملكة نازلى أنا مستعدة لأن أضع ثروتى كلها بين يديك.. وهناك قالت الملكة نازلى إذن سأذهب إلى فاروق وأقول له إننى سأتزوجك. قال حسنين: اذهبى.. ولكنه سيرفض. وكانت مقابلة عاصفة بين الملكة الأم وابنها، قال لها فاروق فى نهايتها: رافقيه أحسن، قالت إنه يرفض. قال سأصدر إليه أمرا ملكياً.. ولعل فاروق كان يسخر من أمه. ويختتم مراد محسن باشا شهادته بقوله: وعلى أى حال فإنه لم يفاتح حسنين فى هذا الموضوع، وكان طبيعيا أننى أعتقد أن الملك سوف يغضب ويحقد على حسنين ويطرده.. ولكن شيئا من هذا لم يحدث! وهذه ليست كل القصة. |
استمرت علاقة الملكة نازلى- أم فاروق- بأحمد حسنين رئيس الديوان الملكى- أكثر من تسع سنوات، ولم تكن هذه هى العلاقة الأولى أو الأخيرة فى سجل نزواتها.. ففى سنة 1942 اشتد الخلاف بينها وبين فاروق بسبب علاقتها بأحمد حسنين، فسافرت إلى القدس ونزلت فى فندق الملك داود، وهناك انتشرت القصص عن فضائحها مع رجال مختلفين من العرب والأجانب، يقول صلاح الشاهد الذى كان قريبا من القصر ومطبخ السياسة: إن فاروق استدعى النحاس باشا وقال له: إن والدتى تحبك وتحب زينب هانم- زوجة النحاس- وأرجو أن تسافر لإحضارها.. وسافر النحاس وقرينته إلى القدس وأقاما فى الفندق أسبوعا يحاول إقناع نازلى بالعودة، فاشترطت أن تستقبل فى محطة مصر استقبالا رسميا، وأن يكون الملك نفسه فى استقبالها على رصيف المحطة، ووعدها النحاس بذلك، وعاد النحاس وقرينته إلى القاهرة وأبلغ الملك فأصر على ألا يذهب إلى المحطة والاكتفاء باستقبال الرسميين وتشريفة الحرس الملكى لها. لكنه عاد ووافق على مطالبها وذهب لاستقبالها على رصيف المحطة، ولكن الفضائح التى كانت تنشرها الصحف الأجنبية عن نزوات الملكة الأم كانت تصل إلى السياسيين والصحفيين فى القاهرة، وكانت من المعاول التى أدت إلى تصدع النظام فيما بعد. *** ولم تكن نازلى وحدها التى انتشرت فضائحها فى العالم، ولكن الفضائح شملت الأسرة الملكية كلها.. يقول المؤرخ الكبير عبدالرحمن الرافعى: اجتمع إلى مساوئ فاروق فى الحكم ظهور الفضائح بين أفراد عائلته وأقرب الناس إليه.. وكانت هذه الفضائح-قبل فاروق- موجودة فى نطاق ضيق بحيث لم يلق الكثيرون بالهم إليها، أما فى عهده فقد تفاقمت الفضائح وصارت موضع أحاديث الخاصة والعامة، ولعل مسلك فاروق الشخصى كان مغريا ومشجعا لأفراد عائلته، على الاستهتار وعدم المبالاة، وكان هو قدوة سيئة لهم، ففى عهده تزوجت عدة أميرات من رجال أجانب وهجرن مصر وأقمن مع أزواجهن فى أوروبا وأمريكا، ومعظم-الأزواج- كانوامن الأفاقين ونهازى الفرص، فساءت سمعة أسرة محمد على بين الشعب، ولم تحافظ والدته نازلى على سمعتها. ولكن السنوات التالية لوفاة أحمد حسنين شهدت من الفضائح ما جعل الشعور بالخجل سائدا بين المصريين. فقد سافرت نازلى إلى أوروبا، وقد عزمت على ألا تعود إلى مصر لكى تعيش على حريتها، وعند وصولها إلى مارسيليا قابلت أفاقا يدعى رياض غالى كان أمينا للمحفوظات بقنصلية مصر فى مارسيليا، وكلفته القنصلية ليكون فى خدمة الملكة، وليشرف على نقل حقائبها، وبسرعة تحول إلى عشيق جديد للملكة، وظل يلازمها ليل نهار، وحين سافرت إلى سويسرا وفرنسا وانجلترا ثم استقرت فى أمريكا ظلت تصحبه معها. ووصلت إلى مصر أنباء الفضيحة الجديدة فطلبت وزارة الخارجية من رياض غالى العودة إلى عمله فى مارسيليا فرفض الإذعان لطلب الوزارة، فقررت الوزارة إحالته إلى المعاش، فاستبقته نازلى فى خدمتها، وادعت أنه (السكرتير الخاص) وعوضته أضعاف مرتبه. وبعد ذلك دوت فى العالم أنباء أكبر فضيحة تناقلتها الصحافة الأمريكية والأوروبية رياض غالى- المغامر المسيحى- أصبح العاشق للملكة الأم ولابنتها- الأميرة فتحية- فى نفس الوقت، وكانت هذه العلاقة الشاذة هى الختام المأساوى لقصة ملكة لم تحترم العرش الذى جلست عليه، ولم تراع كرامة البلد الذى تنتمى إليه.. بل لم تحترم شيخوختها حتى حين وصلت إلى سن الثمانين.. بل لم تراع حالتها الصحية، وهى تعانى فى سنوات الإقامة فى أمريكا من مرض فى الكلى، اضطرت إلى إجراء جراحة لاستئصال إحدى الكليتين. كان رياض غالى الشاب الوسيم مسيحيا فى الثلاثين من عمره، حكى بنفسه بداية علاقته بالملكة نازلى فى حديث مع زميلنا الراحل جميل عارف لمجلة المصور نشرته فى عدد 7 يناير 1971 فقال: (طيلة إقامة الملكة وابنتها الأميرة فتحية والأميرة فائقة فى مارسيليا لم أحظ بمقابلتهن.. وفى صبيحة يوم سفر الملكة استدعانى القنصل وكلفنى بحمل البريد الذى ورد باسم الملكة إلى جناحها فى الفندق، دعتنى الملكة للجلوس وسألتنى عن اسمى وأسرتى وعملى وثقافتى.. وعندما وصلت إلى دار القنصلية علمت أن الملكة اتصلت بالقنصل ليتخذ الإجراءات لانتدابى لمرافقتها إلى الولايات المتحدة. *** وبدأت الأنباء تتردد فى أوروبا ووصلت إلى الشارع فى القاهرة عن علاقة الملكة الأم بعاشق جديد، ومن جنيف وصل تقرير سرى إلى فاروق فى 25 أكتوبر 1946 وفيه (سافرت الملكة نازلى إلى جنوب فرنسا، وقد لوحظ أنها سلمت رياض غالى كل أموالها.. وجعلته المتصرف فيها). وينقل حنفى المحلاوى فى كتابه عن الملكة نازلى بعض البرقيات والتقارير التى وصلت إلى الملك ومازالت محفوظة فى أرشيف قصر عابدين ومنها مثلا: نيس 3 نوفمبر 1946- شوهدت الملكة نازلى مع رياض غالى فى المعرض، وكانت تتحدث معه بغير كلفة،واشترت روائح عطرية مختلفة، وكانت تضع بعضها على أنفه ليشم الرائحة.. باريس 17 نوفمبر 1946 وصلت الملكة نازلى إلى هنا وحجزت غرفة لرياض غالى فى فندق (بلانتزا أتينيه) بجوار جناحها.. باريس 20 نوفمبر 46- كان رياض غالى يصطحب الملكة نازلى فى ذهابها إلى الخياطات لشراء الفساتين الجديدة.. باريس 22 نوفمبر 46- شوهدت الملكة نازلى فى مسرح (الكازينو دى بارى) ومعها رياض وكان يجلس بينها وبين الأميرة فتحية.. وبعد ذلك خرجوا إلى مطعم فى الحى اللاتينى وتناولوا العشاء. باريس 27 نوفمبر 1946- شوهد رياض غالى فى البنك يودع فيه مبلغا طائلا باسمه، كما شوهد فى نفس اليوم يقود سيارة ومعه الملكة والأميرتان. جنيف 7 أبريل 1947 لوحظ أن الملكة تتناول إفطارها فى الفندق يوميا مع رياض غالى وهو الحاكم بأمره فى الحاشية الملكية، ويبدى أفراد الحاشية استياءهم لنفوذه الذى يزداد وسيطرته الكاملة على الملكة. جنيف 27 أبريل 1947، قالت الملكة نازلى إنها إذا أرادت أن تختار بين صداقتها لرياض غالى وابنها فاروق فإنها تختار صداقة رياض غالى.. لندن 7 مايو 1947، قالت الملكة نازلى اليوم إنها لا تريد العودة إلى مصر لأن جلالة الملك ينظر إلى رياض غالى نظرة شك.. لندن 8 مايو 1947، قالت الملكة نازلى إنها ستهاجر إلى أمريكا وأنه معروض على رياض غالى مناصب كبيرة فى شركات مالية وصناعية فى أمريكا وأنه يستطيع أن يكون مليونيرا إذا أراد، ولكنه فضل أن يكون فى خدمتها.. لندن 11 مايو 1947 يقول رجال البوليس السرى الذين كلفتهم السفارة بأن يتولوا حراسة الملكة نازلى إن رياض غالى هو المتصرف فى شئونها.. وإن الأميرتين قبل سفرهما مع الملكة لم تكونا لتستطيعا شراء أى شىء إلا بإذنه وبموافقته.. وعندما كان يمرض رياض غالى كانت الملكة هى التى تقوم برعايته. وفى منتصف مايو 1947 هاجرت الملكة نازلى إلى أمريكا.. واستقال رياض غالى من عمله فى وزارة الخارجية ليتفرغ للملكة وابنتها فتحية وأقام معها فى فيلا اشترتها نازلى فى بيفرلى هيلز فى هوليوود أرقى أحياء أمريكا.. وأجريت لها ثلاث عمليات جراحية إحداها لاستئصال الكلى اليمنى. وفى حديث صحفى قال رياض غالى: ذات يوم جمعتنى الظروف بالأميرة فتحية وكنا بمفردنا وحدث ما كنت أخشاه، فقد صارحتنى بحبها لى، فقلت: مستحيل أنت أميرة وأنا لا شىء.. واستدعتنى الملكة نازلى ذات يوم وإذا بها تفاجئنى بقولها اسمع يا رياض، أنا أعرف ما يدور وراء ظهرى بينك وبين فتحية.. فقلت: لقد فكرت فى هذا الموضوع وقررت إشهار إسلامى، فقالت: على بركة الله، واستدعت ابنتها فتحية واستقبلتها بقبلة وهنأتها.. وأمام تعنت الملك فاروق فيما أقدمنا عليه قررنا أن نضعه أمام الأمر الواقع بعدما سمعنا بثورته وتهديده لنا جميعا فحددنا موعدا للزواج، ولكن فاروق ازداد هياجا وثورة.. بل هددنى بأنه سوف يقتلنى بنفسه إن رآنى. فى أواخر أبريل 1950 طلب فاروق من النحاس باشا أن يستخدم نفوذه لدى الملكة نازلى لمنع هذا الزواج بأى ثمن، واتصل الناس بها، وقال لها: (ثقى أن هذا الزواج سيكون أول مسمار فى عرش ابنك، وأول مسمار فى نعشه). ووصلت التهديدات إلى أسرة رياض غالى، ورفضت السفارة المصرية فى واشنطن تجديد جواز سفره.. وفى أوائل مايو 1950 عقد الزواج المدنى فى سان فرانسسكو بين رياض غالى و(الأميرة) فتحية. وطلب فاروق أن تنشر الصحف قصة هذا الزواج بالتفصيل كما طلب من الرقابة عدم حذف أى شىء فيها.. وأمر مجلس البلاط برئاسة الأمير محمد على بالاجتماع للنظر فى أمر الملكة الأم والأميرة وقرر مجلس البلاط رفض زواج فتحية من رياض وتجريدها هى وأمها الملكة نازلى من امتيازاتهما الملكية، فلم تعد الملكة ملكة ولم تعد الأميرة أميرة، ومصادرة أملاكهما وأموالهما فى مصر. الفصل الأخير فى يوم 9 ديسمبر 1976 أطلق رياض غالى الرصاص على الأميرة فتحية وقتلها بعد إدمانه الخمر والمخدرات، وحاول الانتحار بإطلاق الرصاص على رأسه، ولكنه لم يمت وحكم عليه بالسجن 15 عاما.. ومات رياض غالى.. ثم ماتت الملكة نازلى عام 1978 وعمرها 83 سنة ودفن الثلاثة فى إحدى كنائس لوس انجلوس، فقد ماتوا على المذهب المسيحى الكاثوليكى.. بعد أن تبددت الثروة وعاشوا حياة الفقر.. ولم يترحم أحد عليهم فى مصر وكل ما قيل: إن الله يمهل ولا يهمل. | |||
الملك فاروق الجزء الثانى
كان المفروض وفقا للدستور أن الملك يملك ولا يحكم، ووفقا للدستور أيضا كان المفروض أن نظام الحكم قائم على الفصل بين السلطات، وأن رئيس الوزراء هو المسئول عن السلطة التنفيذية، ولكن مبادئ الدستور فى أيام حكم فاروق كانت حبرا على ورق، فقد كان فاروق فى الواقع يملك ويحكم، بل إنه كان يحكم ويتحكم فى كل كبيرة وصغيرة، أى أنه كان دكتاتورا ولم يكن ملكا دستوريا وليبراليا كما أشاع من يكتبون عنه دون أن يعيشوا فى كواليس القصر مثل كريم ثابت وغيره. أما رؤساء الوزارات والوزراء فلم يستطيعوا أن يعترفوا بأنهم كانوا تابعين ومجرد منفذين للمشيئة السامية. والحكايات عن ذلك كثيرة. يقول كريم ثابت فى مذكراته إنه بعد تعيينه فى القصر مستشارا صحفيا للملك وملازمته له اكتشف أن العلاقات بين القصر والحكومة قائمة على دستورين، أحدهما «مكتوب» ومعروف للشعب، والآخر غير مكتوب و»مكتوم» عن الشعب، وبمقتضاه كانت الحكومات المتعاقبة لا تصدر قرارا ولا تقوم بعمل إلا بعد استطلاع رأى الملك والحصول على موافقته. وعلى سبيل المثال كان جدول أعمال كل اجتماع لمجلس الوزراء يرسل إلى القصر قبل عقد الاجتماع فيأمر الملك بحذف أو إرجاء بحث بعض الموضوعات ويوافق على بحث موضوعات. وكانت جميع الترشيحات للمناصب الحكومية من درجة مدير عام فما يعلوها ترسل إلى القصر ليقول الملك كلمته فيها، بما فى ذلك المناصب الإدارية والفنية التى لا تمت إلى السياسة بصلة كمنصب مدير عام مصلحة التنظيم مثلا، وكثيرا ما كان القصر يعيد الترشيحات بعد أن يعارض فى تعيين أو ترقية بعض الأسماء، ولذلك كانت من تقاليد الحكومة أن ترشح اسمين أو ثلاثة اسماء لكل منصب ليقرر الملك من يعين فى الوظيفة من بينها. ولم يكن وزير الخارجية يوافق على منح إجازة لسفير أو وزير مفوض فى سفارة إلا بعد عرض الأمر على القصر مع أن الملك لم يكن يعرف أسماء معظمهم. ولم تكن حركات الترقيات والتعيينات تصدر إلا بعد موافقة الملك بالنسبة لضباط البوليس ورجال القضاء والنيابة ومهندسى وموظفى الرى وأطباء وزارة الصحة وما إلى ذلك. وبالطبع كانت التعيينات والترقيات فى الجيش ووزارة الخارجية تعرض على القصر. بل كانت من التقاليد التى لا تستطيع حكومة تجاوزها أن (تستأذن) فى ميعاد المحمل، أو تغيير ملابس رجال الجيش والبوليس صيفا وشتاء، ومواعيد سفر السفراء والوزراء المفوضين إلى مقار أعمالهم، أو منح تأشيرة سفر لأى فرد من أفراد أسرة محمد على. وبالطبع كان لابد من الاستئذان أولا قبل حصول الوزراء على إجازات وقبل سفرهم للخارج وترشيح من سيقوم بأعمالهم.. وكانت تعرض على الملك جميع الكلمات التى ستلقى فى كل احتفال يحضره والكلمات التى يلقيها رؤساء الوزارات فى الإذاعة فى مناسبتى عيد ميلاد الملك وعيد جلوسه على العرش وغير ذلك من المناسبات الوطنية أو الدينية.. وهكذا كان تدخل القصر فى أعمال الحكومة.. والغريب ان زعماء الأحزاب كانوا يفعلون ذلك عندما يتولون الحكم باعتبار أن ذلك هو الأمر الطبيعى! *** والذين يقولون إن فترة حكم فاروق كانت فترة ازدهار الليبرالية والديمقراطية يطلقون القول على عواهنه، والدليل أن الملك كان يعين ويقيل الحكومات ضاربا بالإرادة الشعبية فى الانتخابات عرض الحائط. فى بداية حكمه أقال الوزارة الوفدية صاحبة الأغلبية، وعين رئيس حزب الأحرار الدستوريين محمد محمود باشا زعيم الأقلية فاضطر إلى ضم وزراء من حزبى الأحرار الدستوريين والسعديين. وبعد أشهر قليلة دفع محمد محمود إلى الاستقالة وعين على ماهر رئيسا للوزراء وكان رئيسا للديوان الملكى، وقبل السعديون والأحرار الدستوريون أن يعملوا تحت رئاسته، وأقر البرلمان هذا الوضع الذى تتولى فيه الحكم وزارة لم تأت بالانتخاب، واضطر على ماهر بعد ذلك إلى الاستقالة فكان المفروض إجراء انتخابات للرجوع إلى الشعب ليختار الحزب الذى يحكم وفقا للمبدأ الديمقراطى ولكن الملك اختار رجلا لا صلة له بالأحزاب هو حسن صبرى باشا ورضيت أحزاب الأقلية أن تشترك فى هذه الوزارة وصفق البرلمان لرئيس الوزراء الجديد، وبعد موت حسن صبرى المفاجئ أثناء إلقائه خطاب العرش أمام الملك فى البرلمان عين الملك حسين سرى باشا وهو ليس زعيما لأى حزب، ورضيت الأحزاب وأيد البرلمان حكومته وأعطاها الثقة.. وهكذا سارت الأحداث فى السنوات الأولى من حكم فاروق.. فكيف يقال إنه كان ملكا دستوريا وأن حكمه كان حكما ليبراليا، وأن البلاد كانت تتمتع فى أيامه بالحرية السياسية وبالديمقراطية؟ كانت المذكرات التى ترفعها الحكومة إلى الملك خالية من الرأى وكلها كانت تنتهى بالعبارة التقليدية «فى انتظار التوجيه السامى» ومازالت هذه المذكرات محفوظة فى قصر عابدين. وكانت المذكرات تعود وعليها تأشيرات بخط الشمشرجى ولم يجرؤ أحد من رؤساء الديوان الملكى أو رؤساء الوزارات على أن يقول إن معظم هذه التأشيرات بدون توقيع الملك وبخط الشمشرجى وهى مذكرات تتعلق بسياسة الدولة وشئون الحكم. وكان كبار رجال الدولة يقولون (حاضر) عندما يبلغهم الشمشرجى بتعليمات الملك وأوامره، وكان رؤساء الديوان الملكى يتعاملون مع الملك عن طريق الشمشرجى، وكان من بين رؤساء الديوان إبراهيم عبد الهادى، وحسين سرى، وحافظ عفيفى وغيرهم من الكبار. كان هذا هو العالم المستور أو الجانب الخفى من نظام الحكم فى عهد فاروق، ومع ذلك كانت كل وزارة تعلن حرصها على مبادئ الدستور. بل إن فاروق تجاهل رئيس الوزراء فى الاجتماع الذى دعا إليه ملوك ورؤساء الدول العربية فى أنشاص على الرغم من الأهمية السياسية لهذا الاجتماع وما فى تجاهل رئيس الوزراء من إهانة، وكان إسماعيل صدقى هو رئيس الوزراء، وكل ما فعله أن ذهب إلى الملك بعد ذلك يهنئه على نجاح الاجتماع. وسافر فاروق إلى السعودية لإجراء مباحثات مع الملك عبد العزيز آل سعود ولم يستصحب معه أحدا من الوزارة بل إنه لم يبلغ رئيس الوزراء أحمد ماهر بأنه مسافر، وظن رئيس الوزراء أن الملك حين غادر البلاد على اليخت الملكى أنه ذاهب فى رحلة بحرية فى البحر الأحمر ثم فوجئ بنبأ اجتماعه مع الملك عبد العزيز وعند عودة فاروق من هذه الرحلة وجد الوزارة بكامل هيئتها فى انتظار استقباله فى ميناء السويس. وكان فاروق هو الملك الوحيد فى العالم الذى يسافر دون أن يؤلف مجلس وصاية يقوم مقامه فى غيابه، ولم يجرؤ أحد على أن يفاتحه فى ذلك الأمر الذى يتعلق بالدستور. *** وفى كل مرة يشكل فيها حزب الأحرار الدستوريين الوزارة كانت قائمة ترشيحات الوزراء تحتوى دائما اسم حامد العلايلى، فكان الملك يشطب اسمه فى كل مرة، وحين سأله كريم ثابت: لماذا يكره العلايلى كل هذا الكره قال له الملك: أنا لا أعرفه ولكنى سمعت أنه شؤم. وقال فاروق مرة لكريم ثابت عن أحد الوزراء: هذا الوزير يعجبنى وأشار إلى أحمد مرسى بدر وزير العدل فى ذلك الوقت، فلما سأله عن سبب اعجابه به قال له: شنبه! وسمع كريم ثابت الملك يقول لرئيس مجلس النواب: عندما تؤخذ لك صورة فى المجلس يحسن أن تكون لابسا الطربوش. وسمعه مرة أخرى يقول لأحد الوزراء الكبار: عندما تخرج من مقابلة الملك ويصوروك مش ضرورى يكون فى إيدك السيجار. يقول كريم ثابت إنه أثناء زيارة له إلى بعض الدول الأوروبية علم أن الملك حصل على أموال من بعض صفقات السلاح ومن عملية إصلاح اليخت المحروسة ومن عمليات أخرى كان له فيها نصيب مما يحصل عليه السماسرة، وحينئذ أدرك لماذا كانت وزارة الحربية تمنع جهاز المحاسبات من بحث حساباتها وخصوصا حسابات الحرب فى فلسطين وحسابات صفقات السلاح، ولذلك هاج فاروق عندما قدم مصطفى مرعى استجوابه المشهور فى مجلس الشيوخ عن الفساد والعمولات فى صفقات الأسلحة وإصلاح اليخت المحروسة وصفقة بيع اليخت فخر البحار، وغضب الملك على رئيس مجلس الشيوخ الذى طرح هذا الاستجواب، وكان الدكتور محمد حسين هيكل رئيس حزب الأحرار الدستوريين هو رئيس مجلس الشيوخ. ويضيف كريم ثابت إن فاروق منذ سنة 1950 لم يكن يستمع إلى نصائح أحد، ولم يتوقف عن مغامراته ولم يبتعد عن الأبواب التى يحصل منها على الأمل ولا يهمه ما تنبعث من هذه الأموال من رائحة الفضيحة، ولم يدرك أن عرشه أصيب بهزات تنذر بكارثة وازداد انغماسا فى القمار والسهرات وإغفال واجباته كملك، وفى هذه الفترة ساءت علاقاته برئيس لبنان، وبالوصى على عرش العراق، وبملك الأردن، وأفسد صلاته بالملك عبد العزيز بن سعود، وقضى بذلك على المكانة التى كانت له فى بداية حكمه. ولأن استجواب مصطفى مرعى عن الرشاوى والأسلحة الفاسدة تحول إلى فضيحة مدوية أحيل الموضوع إلى النيابة العامة، وتناول التحقيق عددا من رجال الحاشية الملكية، وفى نهايته أصدر النائب العمومى (محمد عزمى) قرارا بحفظ التحقيق فأنعم الملك على رجال الحاشية المتهمين برتب ونياشين. هل كان فاروق يعلم ما كانت تنشره الصحف العالمية من فضائحه ومجونه؟ وهل كان يعلم ما كان يردده المتظاهرون ضده بألفاظها؟ وهل علم بأن طلبة جامعة القاهرة أسقطوا صورته وداسوها بالأقدام؟ وهل كان يعلم بالنكت التى كانت تتناقلها الألسنة عنه وعن أمه وشقيقته فتحية؟ يقول كريم ثابت إن فاروق كان يعلم كل ذلك بالتفصيل وكانت ترفع إليه تقارير سرية من عدة جهات وفيها كل ما يحدث وكل ما يقال عنه بالحرف. أكثر من ذلك.. كان يردد أنه سيكون آخر ملك لمصر.. وهذه قصة أخرى. | |||||||||||||||||||
الملك فاروق الجزء الاول
فى مسلسل الملك فاروق حاولت مؤلفته الدكتورة لميس جابر إقناعنا بثلاث قضايا: الأولى: أن النحاس باشا زعيم حزب الوفد كان يخوض المعارك مع الملك دفاعا عن الديمقراطية والدستور، وهذه القضية صحيحة تاريخيا, الثانية: أن الملك فاروق كان وطنيا ومشغولا بمصالح البلاد وحريصا على رعاية الشعب رعاية كاملة كما أقسم على ذلك فى بداية عهده، والقضية الثالثة: أن الثورة قامت بدون مقدمات شعبية لمجرد خلاف بين الضباط الأحرار والملك حول تشكيل مجلس إدارة نادى الضباط واختياره لوزير الحربية الذى لا يرضى عنه الجيش. والقضيتان الأخيرتان فيهما مخالفة للواقع التاريخي. لا يختلف المؤرخون على أن النحاس باشا تولى رئاسة الوفد بعد الزعيم الوطنى سعد زغلول، وهو زعيم تاريخى كان موضع إجماع الشعب بصورة نادرة، بل إن الشعب هو الذى جعله زعيما ولم يكن هو الذى سعى إلى ذلك. ولم يكن الوفد فى عهده حزبا بالمعنى الدقيق ولكنه كان حشدا شعبيا ضم كل الفئات والطبقات من الباشوات وكبار ملاك الأراضى إلى شيوخ الأزهر وكهنة الكنيسة إلى الطلبة والعمال والفلاحين. وسار الجميع خلف قيادته من أجل هدف واحد هو النضال لتخليص البلاد من الاحتلال البريطانى وإقرار نظام حكم ديمقراطى واستعادة ثروات البلاد المنهوبة. وبعد سعد ظهرت الخلافات بين زعماء الوفد التى كان يحجبها سعد بشخصيته الكاريزمية، ووقع بعضهم فى الفخ الذى نصبه القصر والانجليز بسياسة (فرق تسد) وشكل كل منهم حزبا لم تكن له شعبية ولكن الحرص على المناصب والثروة أدى فى النهاية إلى إفساد الحياة السياسية، مما أدى إلى حتمية قيام الثورة. ومع حرص المسلسل على أن يجعل المشاهد يحب فاروق وعصره ورجاله لم يتناول بالتفصيل فساد الملك الذى كان يملك إقطاعيات بآلاف الأفدنة فيما كان يسمى (الخاصة الملكية) وكان يملك الأرض والفلاحين الذين كانوا يعملون فى نظام أقرب إلى السخرة. وهكذا كان بقية أفراد العائلة المالكة. أما أن الملك فاروق كان ذا شخصية بسيطة خفيف الدم يحب الناس البسطاء فهذه مسألة تتعارض مع الحقيقة، وتؤدى إلى تضليل الأجيال التى لم تعايش أو تقرأ أو تسمع عن أحوال البلاد فى ذلك العصر والعوامل التى أدت إلى قيام الثورة، التى كانت تعبيرا عن إرادة الشعب ولم تكن تعبيرا عن غضب مجموعة من الضباط أو تطلعهم إلى السلطة. والمؤرخ الكبير الدكتور لبيب رزق فى مقدمة كتاب (فاروق الأول وعرش مصر) للدكتورة لطيفة محمد سالم يقرر – عن علم وتخصص – أن حياة فاروق وعهده يمثلان مرحلتين مختلفتين تمام الاختلاف. المرحلة الأولى كان شعبيا ومحبوبا والمرحلة الثانية كان فاسدا بكل معانى الكلمة. بل إن الدكتور يونان – استنادا إلى شهادات المقربين من الملك فاروق وأهمهم حسن باشا يوسف وكيل الديوان الملكى فى الفترة من 1942 إلى 1952 – يقرر أن شخصية الملك فاروق كانت فى المرحلة الثانية من عهده شخصية (سيكوباتية).. وللعلم فإن هذا مرض عقلى يجعل المصاب به يتحول إلى السلوك الإجرامى، ويضيف الدكتور يونان إلى ذلك ما ذكره المتخصصون من أن فاروق فى هذه المرحلة كان مصابا بمرض نفسى آخر هو (انفصام الشخصية). هذا بينما كانت مصر تعانى ظروفا سياسية واقتصادية بالغة القسوة فى أعقاب الحرب الثانية (1945 – 1952) وكانت فى حاجة إلى قيادة واعية وحكيمة وليس إلى ملك مستغرق فى اللهو ومحاط ببطانة السوء التى تزين له كل ألوان الانحراف السياسى والأخلاقى. والدكتورة لطيفة محمد سالم أستاذة التاريخ الحديث من أكثر المؤرخين إلماما بحياة الملك فاروق ولها أعمال موسوعية عن عصره، وقد أعدت كتابها عن فاروق اعتمادا على الوثائق البريطانية والمصرية وشهادات المقربين والمعاصرين لفترة حكم فاروق، وخرجت بنتيجة أنه كان هناك فاروقان وليس فاروقا واحدا. الأول حكم فى الفترة من 1938 حتى 1944 ثم حدث انقلاب فى شخصيته بعد إقالته لحكومة الوفد فى أكتوبر 1944 وأصبح فاروقا آخر تسبب بنزواته السياسية والشخصية فى تخلف مصر عن مسيرة التحديث التى انطلقت إليها معظم الدول وسبقتنا . وقد عرض المسلسل بتفصيل المرحلة الأولى واستغرقت معظم الحلقات. أما المرحلة الثانية – وهى الأهم – فاكتفى بإشارات سريعة قد تفوت على المشاهد، وأظهر انحرافات الملك وكأنها كانت مجرد هفوات أو نزوات وليست تلاعبا بمصائر الشعب واعتداء على حقوقه. وقدم المسلسل البطانة الفاسدة المحيطة بالملك وكأنها مجموعة من الظرفاء والأرجوزات لتسليته فى أوقات الضيق، ولم يبين المسلسل كيف كانت هذه الأرجوزات تؤثر فى سياسات ومواقف الملك السياسية والأخلاقية. وإن كان المسلسل قد ركز على دور أحمد حسنين باشا وكأنه هو وحده كان له تأثير كبير عليه بينما كانت بطانة السوء لا تقل تأثيرا خصوصا بعد وفاة أحمد حسنين وإنفرادهم بالملك الذى عانى من انحرافات أسرته – بالإضافة إلى انحرافه هو أيضا – ويعانى من الضغوط الشعبية متمثلة فى حزب الوفد، ويعانى من الفضائح التى ارتكبتها أمه وبعض شقيقاته فى أمريكا وكانت الصحف الأمريكية والأوربية تنشرها كما تنشر فضائحه فى رحلاته إلى أوربا . ولم يقدم المسلسل صورة للحياة الاجتماعية فى مصر فى ذلك العهد، وحالة الفقر والحرمان والملايين التى لا تأكل اللحم إلا فى العيد ولا يأكلون الفاكهة إلا نادرا، ولا يعلمون أبناءهم لأنهم لا يقدرون على دفع مصاريف التعليم، وهكذا كان الثالوث الذى يتردد فى الخطب الرسمية والمقالات هو: الفقر والجهل والمرض، وكان أكبر مشروع قومى هو مشروع مكافحة الحفاء لأن الملايين كانت لا تملك ما تضعه فى أقدامها، وكان أكبر حلم شارك فيه الشعب هو مشروع القرش الذى تبرع فيه المصريون بقروشهم لبناء مصنع لصناعة الطرابيش على أنه تحقيق للنهضة الصناعية للبلاد! لم يصور المسلسل العمال والفلاحين وصغار الموظفين فى معاناتهم كما صورها الأدباء والشعراء ولعلنا نذكر رواية الأرض لعبد الرحمن الشرقاوى وأشعار بيرم التونسى والشرنوبى وكتابات الدكتور محمد مندور وغيرهم وغيرهم. ولم نشاهد فى المسلسل حالة البؤس الذى كان يعيش فيها ملايين المصريين وشاهدنا القاهرة نظيفة والناس تسير بملابس لامعة وطرابيش جديدة وكأنها باريس! والحقيقة أن القاهرة كانت مليئة بالحمير وعربات الكارو وسوارس وبالمتسولين والمشردين والبلطجية. تقول الدكتورة لطيفة محمد سالم: إن المرحلة الثانية لفاروق (1944 – 1952 ) شهدت أفول التوهج الذى لازمه، وانفصل عنه الشعب الذى كان يعانى من سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وتحول فاروق إلى ديكتاتور يعادى حزب الأغلبية ويعين حكومات ليست لها قاعدة شعبية لتكون منفذة لرغباته ويكون هو وحده الآمر الناهى ويمارس من خلالها أوتوقراطية مستفزة، واستسلمت له أحزاب الأقلية (الأحرار الدستوريين، والهيئة السعدية، والكتلة، والحزب الوطنى) وسايرته – بل وشجعته – على استبداده واستهانته بحقوق الشعب وبالدستور. ولم يصور المسلسل حالة القلق الاجتماعى ونشأة الحركات السياسية بسبب الحرمان والفقر واستهانة أغنياء الحرب والإقطاعيين بمعاناة الملايين، ولم يعرض لمظاهرات الطلبة ضد فاروق وكيف أيد ما فعلته حكومة النقراشى بفتح كوبرى قصر النيل ليسقط عشرات من الطلبة المتظاهرين فى النيل ويكافئ الحكومة على ذلك بمنح نيشان محمد على لرئيس الوزراء، ومنح الباشوية للوزراء الذين لا يحملونها. ولم يذكر المسلسل تجاهل فاروق لمعاناة الشعب وإقامته الاحتفالات التى ينفق عليها من أموال الشعب مما كان يمثل استفزازا لمشاعر الناس. ولكى يعرف الجيل الجديد الحقيقة لابد أن نكمل الحديث عما سجله التاريخ عن هذا العهد البائد. | |||
| |||
|
-فاروق كان ملكا ولم يكن ملاكا ! | ||
كان صلاح الشاهد مديرا للمراسم برئاسة مجلس الوزراء وكان قريبا جدا من رؤساء الوزارات: مصطفى النحاس، وحسين سرى، وعلى ماهر، وأحمد ماهر، والنقراشى، ونجيب الهلالى، وغيرهم. واستمر فى عمله بعد قيام الثورة إلى أن صار كبير الأمناء برئاسة الجمهورية مع عبد الناصر ثم مع السادات.. وقضى 31 عاما يراقب ويتابع من قريب ما يجرى فى دهاليز السياسة فى عصر فاروق ثم فى عصر الثورة، ومن موقعه كان يرى ويسمع ويتابع ما يجرى فى القصر الملكى ثم فى القصر الجمهورى. وبعد أن استقال من عمله فى عام 1973 نشر كتابا مهما بعنوان (ذكرياتى بين عهدين) تحدث فيه عما شاهده وعايشه فى دهاليز القصر الملكى ثم القصر الجمهورى. ويلتقط الكاتب الكبير محسن محمد فى مقدمة هذا الكتاب واقعة تكشف الكثير من جوانب شخصية الملك فاروق. فقد أراد هارى ونستون تاجر المجوهرات الكبير فى أمريكا اللاتينية أن يبيع للملك فاروق قطعتين من الماس بمليونى دولار عن طريق سفير مصر فى باريس أحمد ثروت، وتدخل فى الصفقة أحمد نجيب الجواهرجى (الذى كان الواسطة فى زواج فاروق من ناريمان) وحصل على سمسرة 50 ألف دولار، وذهب إلى المليونير أحمد عبود (صاحب مصانع السكر والسماد وأغنى رجل فى مصر فى ذلك الوقت) وطلب منه أن يدفع الثمن (مقابل خدمات وتسهيلات يحصل منها على أكثر من المليونين) ولكن عبود باشا لم يستطع تدبير المبلغ كله وتمكن من دفع مليون و200 ألف دولار تسلمها الجواهرجى أحمد نجيب وأخذ منها نصيبه، ووافق البائع على أن يسدد المبلغ الباقى فيما بعد، وكان الثمن العاجل لهذه الصفقة هو إقالة وزارة أحمد نجيب الهلالى التى كانت تضيق على عبود باشا الخناق بسبب تهربه من الضرائب مقابل مليون و200 ألف دولار ولم يعد أحد يطالب عبود باشا بما عليه للضرائب.. وهكذا كان فاروق ورجاله وعصره. موقف آخر يغنى عن كتاب يعدد مفاسد فاروق وعصره، طلب الملك فاروق تعيين كريم ثابت وزيرا فى وزارة حسين سرى باشا، وكريم ثابت يعلم الجميع فساد تصرفاته، ورأى صلاح الشاهد حسين سرى باشا- رئيس الوزراء- يقول لمن اعترض على تعيين كريم ثابت وزيرا وهو مشهور بفساده: الملك عاوز كده ولازم نسمع كلام الملك. كما سمع من محمد هاشم أقوى وزراء الحكومة وزوج حسين سرى باشا يقول: كريم ثابت قريب جدا من الملك وحايسندنا فى القصر، والسياسة عاوزة كده. ويحكى صلاح الشاهد أن مباذل الملك فاروق وسهراته التى شاعت فى مصر وخارجها، وبعد أن ظهر أن الملك وحاشيته وفى مقدمتهم أحمد حسنين باشا سائرون فى سياسة غير وطنية وغير كريمة حتى أصبح رمز البلاد مضغة فى الأفواه، حينئذ رأى النحاس وكبار الوفديين عزل الملك عن العرش، وعرض الأمر على مجلس الوزراء فأقر هذا الاتجاه وعهد إلى نجيب الهلالى باشا أن يصوغ بأسلوبه الدقيق بيانا بمبررات خلع الملك، فأعد البيان وذهب به إلى منزل النحاس حيث كان الوزراء لا يزالون موجودين هناك، وتم توقيعهم جميعا على البيان كقرار صادر من مجلس الوزراء بخلع الملك فاروق وإعلان الجمهورية.. كان ذلك فى سنة 1943 أى قبل 9 سنوات من قيام ثورة يوليو، ولكن جاء إلى النحاس من يبلغه موافقة السفارة البريطانية على هذا القرار وأنها تشجع هذا الاتجاه فقام بحرق القرار، واحتفظ أحد الوزراء وقتها بمسودة هذا القرار الذى يكفى للدلالة على مدى ما كان عليه فساد الملك وحاشيته. وهذا الوزير هو محمود سليمان غنام باشا الذى كان وزيرا للتجارة فى ذلك الوقت. ويصف صلاح الشاهد حال البلاد فى ظل حكم فاروق فيقول إن مصرع النقراشى ثم حسن البنا كانت لهما آثار سيئة على الحالة الداخلية فازدادت الأمة تفرقا، وشاعت فى البلاد إجراءات بوليسية غير عادية.. ويشير إلى تزوير الانتخابات بناء على رغبة الملك فاروق ليكون مجلس النواب مؤلفا من أحزاب الأقلية. كما يروى صلاح الشاهد كيف كان الملك والزعماء السياسيون يتوددون إلى السفير البريطانى، وأن السفارة البريطانية كانت فى عصر فاروق هى التى تتولى رسم السياسات.. ويذكر أسماء لا حصر لها من الوزراء ورؤساء الوزارات ورجال القصر - بالإضافة إلى الملك - كانت تستلهم الوحى من السفارة البريطانية التى تمثل سلطة الاحتلال. ويتحدث عن كريم ثابت، فيقول إنه شخصية غامضة تحوط بها الأساطير والحكايات الأخلاقية ومع ذلك كان كريم ثابت عند الملك (فرخة بكشك) ولعب دورا مدمرا فى الفترة من 1946 إلى 1952، وعند زواج الملك بناريمان سنة 1951 اشترطت ناريمان إبعاد كريم ثابت وحاشية الملك التى فاحت رائحة فسادها، وفعلا أبعد الملك كريم ثابت.. ولكن بعد أن تمكن من إفساد كل شىء.. وإفساد الملك. ويذكر صلاح الشاهد أن ناهد رشاد- التى كانت من وصيفات القصر (وهناك قصص وحكايات عن قربها من فاروق)- كانت تطل من شرفة القصر إلى جوار الملك يوم 16 يناير 1952- قبل الثورة بشهور- وكانا يتابعان المظاهرات التى تهتف ضد فاروق وفساده. وكان شعور السخط سائدا فى أنحاء البلاد مقترنا بميلاد ولى العهد أحمد فؤاد.. لم تكن الأمة مبتهجة بميلاد ولى العهد كما حدث عند زواج فاروق سنة 1938 بالملكة فريدة، ورأى الملك المظاهرات التى تهتف بألفاظ عدائية ضده وضد ولى العهد، وقالت ناهد رشاد فى ذلك للملك: إننا أمام بوادر خطيرة، يجب يا مولانا أن تقوم بعمل كبير يهز هذا الشعب، وسألها الملك ساخرا عن هذا العمل الكبير فأجابت: مثل أن تتنازل عن نصف أموالك للشعب حتى يلتف الشعب حول العرش، ولكن الملك ضحك ضحكة ساخرة، وبعد أيام احترقت القاهرة. وبمناسبة ميلاد ولى العهد أحمد فؤاد كانت التعليمات الصادرة من القصر أن تكون الهدايا التى تقدم إلى الملك عينية ومن الأفضل أن تكون من الذهب. ويذكر صلاح الشاهد بعض الأمثلة.. كانت هدية اللواء وحيد شوقى (بك) صينية من الذهب وبها جنيهات ذهب تحمل صورة الملك فاروق، وطلب كريم ثابت من الكنيسة المارونية التى كان ينتمى إلى طائفتها أن تقدم صينية من الذهب، وكذلك البطريركية القبطية. ويذكر صلاح الشاهد واقعة تابع تفاصيلها، وهى أن ناريمان حصلت على حكم بحضانة ابنها أحمد فؤاد- بعد عزل فاروق والفضائح التى كان يرتكبها فى منفاه بإيطاليا بتصرفاته غير الأخلاقية التى كانت تملأ صفحات من أكبر صحف أوربا- وذهبت إلى إيطاليا لتنفيذ الحكم والتعرف على ثروة الطفل، ففوجئت بأن مجوهرات الملك ما زالت موضوعة فى أكثر من سبعة صناديق من الخشب ملفوفة بورق جرائد بالية ومودعة بالجمارك بسبب خلاف بين فاروق وسلطات الجمارك الإيطالية حول الرسوم الجمركية المستحقة على هذا الحجم الهائل من المجوهرات. وعرضت القضية أمام القضاء الإيطالى، وفى ذلك أكبر دليل على أن فاروق خرج من مصر ومعه صناديق مكدسة بالمجوهرات، طبعاً من دم الشعب المصرى على عكس ما ذكرته الأميرة السابقة فريال ابنة الملك فاروق التى تعيش فى سويسرا الآن من أن الملك لم يحمل معه جواهر. ويكرر صلاح الشاهد الإشارة إلى دور كريم ثابت فى حاشية الفساد حول الملك فيقول عنه إنه شخص لا يؤمن جانبه، كان قوى التأثير على الملك ودفعه إلى التصرفات غير الأخلاقية. ويروى كيف كان الملك فاروق معزولا عن المشاعر الشعبية على عكس ما ذكره المسلسل وأقام مأدبة غداء بمناسبة (سبوع) ولى العهد لكبار رجال الجيش يوم السبت 26 يناير سنة 1952- يوم حريق القاهرة- وعند اندلاع الحرائق وامتدادها إلى أنحاء العاصمة توجه وزير الداخلية- فؤاد سراج الدين- إلى القصر لكى يطلب إنزال الجيش إلى الشارع لحماية العاصمة وكان الملك يعلم بحجم الحريق وبسبب حضور وزير الداخلية ومع ذلك جلس الوزير ساعتين ونصف الساعة إلى أن أذن له الملك بمقابلته (وهو يعلم بأن القاهرة تحترق). ويردد صلاح الشاهد السؤال الذى يحير المؤرخين إلى اليوم وهو: من الذى دبر حريق القاهرة؟ هذا الحريق الذى كانت نتيجته الأولى إجهاض المقاومة المسلحة للاحتلال التى اشتعلت فى مدن القناة وكانت حكومة الوفد تدعمها. بعد الحريق طلب الملك فرض الأحكام العرفية ثم أصدر قراره بإقالة حكومة الوفد وكان فى الحقيقة ينتظر أول فرصة للتخلص منها لأن النحاس كان عنيدا فى رفضه لاستبداد الملك، وبدأ فاروق بعد ذلك يتخبط فى القرارات والتصرفات فيعين حكومات هزيلة ليست لها شعبية، ويختار رؤساء وزارات لا دور لهم إلا (السمع والطاعة) وهكذا تحولت البلاد إلى ظلام ما بعده ظلام - على حد تعبير صلاح الشاهد- وهو يشير بأصابع الاتهام إلى القصر وإلى عناصر ذات اتصال بأمريكا! ويشير إلى ما اكتشفه وزير الداخلية (فؤاد سراج الدين) من اشتراك بعض المهيجين فى حريق القاهرة لأحداث الشغب واستعملوا لإشعال الحرائق مواد واردة من الخارج ولم تكن فى متناول هؤلاء الغوغاء والعملاء، وكان الأمر مدبرا بدقة ابتداء من مصر الجديدة إلى حلوان، والتنفيذ محكما إحكاما كبيرا، ولكن ما دور الملك؟ يشير صلاح الشاهد بإصبع الاتهام إلى الملك ويستدل على ذلك بأن المدعوين على الغداء الملكى هم جميع ضباط البوليس فى القاهرة من رتبة صاغ فما فوقها، مع 300 من ضباط الجيش بمناسبة (سبوع) ولى العهد. أى أنه لم يكن فى البلد من يملك التصرف لمنع امتداد الحرائق. ويقول صلاح الشاهد إن تصرفات الملك فاروق يوم الحريق كانت مشبوهة ومريبة، وربما كان بعض من حوله قد أفهموه بأنهم يدبرون أمرا يتيح له الإطاحة بحكومة الوفد، ومن الغريب أنه كان بإمكان الملك أن يطلب من ضباط الشرطة الانصراف من مائدة الغداء لإخماد النيران واستعادة السيطرة على الفوضى ولكنه لم يفعل ذلك بل حدث العكس، فقد جمع الضباط بعد الغداء وظل يتكلم معهم، وعندما طلب وزير الداخلية منذ البداية إنزال الجيش للاشتراك فى إخماد الحريق لم يجد استجابة، وحين ذهب الوزير إلى القصر ليطلب النجدة وجد وزير الحربية (حيدر باشا) ورئيس الديوان (حافظ عفيفى باشا) يجلسان معا وكأن شيئاً لا يحدث، وقابلا طلبه ببرود وكل منهما يدعو الآخر إلى رفع الأمر إلى (الأعتاب الملكية) ليأذن- أو لا يأذن- بنزول الجيش. ونزل الجيش ولكن لم يحرك ساكنا.. وقال وزير الحربية إنه يخشى أن ينضم الجيش إلى الجمهور الغاضب! هكذا كان الحال.. ثم نجد من يقول إن فاروق كان ضحية!! | |||
| |||
بريد الكاتب |
| |||||||||||||||||||||||
Subscribe to:
Posts (Atom)